الجمعة، 29 يونيو 2012

طيور الخوف


هذا الجدار المنهار ، هذه الزاوية الصغيرة التي أكمل الفضاء بناها ، في هذه الزاوية كانت بقايا شيء ما ، شيء لطالما عمر بالحياة ، في هذا الركن ضجت كثير من الأصوات .. اعتاد أن يكون له أقران يعكس صداهم إلى أبعد مدى .. ولكن لم يتبقى سواه ، ذلك الركن أوتلك الزاوية .. هي مأساة حكايتي .. فبعد أن طال به الزمن ، و عجز الآخرون سواه ، .. بعد أن أصبح سقفه السماء .. و أرضه رمال الصحراء ، و قنديله بدر التمام ، بعد هذا كله .. مازال يحتضنني خلفه ، ما زالت جنباته شامخة في سماء لا حدود لها ، كل شق فيه يحكي  حكاية دهر ، يحكي عن أناس مرُّو به ، عن قصص وروايات لو أنها سطرت .. لظل العالم مذهولا بها إلى أمد بعيد .

يدان مرتعشتان ..أمسَكت بقايا جدار ، أمسَكَت بقايا عمري الذي شارف على الإنتهاء ، أمسَكَت ذكرياتي . أمسَكتٌها بيداي هاتين .. ولكنهما لم تعودا كما كانتا .. لقد تحولتا إلى شيء آخر .. نعم .. حولهما الخوف إلى جسد خاو لا يزال يرتعش.

ضممت يداي إلى صدري ، أغمضت عيناي ، و ثبت قدماي على رمال الصحراء و أسندت ظهري إلى هذه الزاوية الحجرية ؛ كل ما تبقى لي في هذا العالم ، و ظننت أنها النهاية .. لا أملك سوى أن أسترق نظرة إلى السماء، أن أنظر نظرة واحدة إلى ذلك البدر البديع . رفعت رأسي و نظرت .. فكان كل ما رأيت طائر أسود يحلق فوقي ، شاقا بكل عظمة و كبرياء هدوء الليل و صمت الفضاء .. أكاد أظن انه ملك من هيبته ! ولكن الملائكة لاتحمل كل ذلك الرعب في ريش أجنحتها العظيمة .. لا أدري ما كان ذلك ، ولكنني سأغمض عيناي الآن .. وإن كان طائر الخوف ذاك .. آخر ما أرى ...

شيء غريب ، أليس من المفترض أن نرى السواد حين نغمض أعيننا ؟ أتذكر ان معلمي وبخني يوما حين سألته ذلك السؤال .. أتذكر ذلك اليوم وكأنه حدث الآن .. دعوني أحدثكم عنه قليلا ..

كنت في الصف الثالث الإبتدائي  حين رن جرس المدرسة معلنا انتهاء حصة الحساب التي لم أكن أحبها  و معلنا ايضا بداية درس الفنون !! وما أجملها من أيام  ..
كنت أحب الرسم و الألوان  .. أدرسها .. أنسقها .. أردت أن أصبح  رساما لأرسم أجمل لوحة على وجه الأرض ..  لأجمل شيء على وجه الأرض ! و أذكر ذلك اليوم أنني تساءلت في نفسي عن أجمل شيء على وجه الأرض ! ماهو ؟ ما لونه ؟ و كيف يكون ؟  و أذكر أيضا أنني عاهدت نفسي بالبحث عنه أينما كان  .. و أن لا أتخلى عن حلمي أبدا  .

كانت الحصة قد بدأت  ، وكالمعتاد علمنا   شيئا عن الالوان  ، و رسم لنا بعض الأشكال بطبشورته على السبورة السوداء ، و يبنما هو يرسم و يلون بطباشيره أجزاء لوحته لتكتمل .. عطست !! هه  ! ربما تتعجبون ما شأن ذلك بقصتي مع معلمي .. ولكنني عندما عطست أغمضت  عيناي بقوة .. ورأيت كما هائلا من الألوان ، رأيت كل الالوان التي كان رسمها على السبورة السوداء  ، ورأيت الوانا أخرى لا اعرفها .. و كان لوحته رسمت في ظلام عيناي بأجمل صورة  .. حينها تبادر إلى ذهني سؤال .. و سألت المعلم :

- هل يرى الاعمى الألوان  ؟

المعلم : وهل سترى شيئا إن اطفأنا الأنوار ؟

- لا

المعلم : فكيف يرى الألوان اذا ؟

لا أدري إن نظر إلي الجميع بسخرية ام لا في تلك اللحظة .. و لكن جل ما أردت معرفته هو تلك الألوان التي رأيتها في ظلام عيناي .. ولا أدري  مالذي يجب أن أستنتجه من كلام معلمي .. و لكن سأبحث عن تلك الأضواء  و سأعثر عليها .

شيء ما يخبرني بان هنالك شيء ما بعد السواد  .. شيء لا نعرفه ... لا أدري ما هو ولكن بصري لا يتوقف حين اغمض عيناي ، نعم فأنا ادرك هذا الآن و انا أغوص بقدماي اكثر فأكثر في رمال الصحراء ، فما زلت ارى ما حولي و انا مغمض العينين ، مازلت ارى ماذا يحدث .

في هدوء الليل.. مع صوت الرياح .. كان هنالك شيء مختلف ، شيء غير عادي ، أسمع وقع خطوات يقترب مني  ، هذا غريب ! فلا أحد سواي هنا !! ولا  أحد يستطيع الوصول إلي الآن .. ماذا تكون تلك الخطوات ؟ انها لشخص ما يقترب .. لا انهما شخصان .. بل ثلاث  ، أسمعهم يقتربون مني شيئا فشيئا .. يصدون الرياح من حولي و كانهم لا يخشونها .. و تلك رياح الصحراء !!

من هم ؟! ماذا يريدون ؟! أأفتح عيناي ؟ ولكني لا أقوى على الحراك  ! ماذا أفعل ؟ !

حين بدأت تلك الأصوات بالإقتراب مني  .. بدا الرعب يتسلل معها إلى ارجاء جسدي أكثر فاكثر .. كلما خطو خطوة  ازداد نبضي قوة .. وكأن قلبي اراد الخروج من مكانه .. وترك هذا الجسد الذي جعل الخوف منه مسكنا للأشباح ، أراد قلبي الحراك .. اراد تركي هناك وحيدا .. تمنى حينها لو زرع في جسد آخر ، فقد حمل الكثير الكثير في داخله ، يأبى ان ينتهي هنا اليوم ..

و يزداد النبض ...

ويزداد النبض ...

إلى ان نبض باقوى ما يملك ، أجبرني على فتح عيناي  ألما و فزعا ! وكأنه يقول لي :  حانت نهايتك ، وكأنه استسلم اخيرا لجبني و قرر ... أن لا ينبض إلى الأبد .

أمسكت صدري الذي عمه الصمت فجاة .. بالرغم من انني فتحت عيناي إلا أني لم اكن أنظر إلى العالم من حولي .. بل كنت انظر إلى داخلي فقط  .. كنت أقول ،، ولسان حالي يقول : لم تحن نهايتي بعد ، كنت أعده سرا بانني لن أخذله .. إن عاد لينبض من جديد .. كنت أرجوه ان يمنحني فرصة ثانية ...

عمت السكينة أرجاء جسدي  .. و أخرجت الهواء المحبوس بداخلي  ، و تنفست الصعداء ، وكأنما هو أول نفس لي منذ زمن ! وكأنني ولدت اليوم بقلب جديد .. عاد لينبض بهدوء  ، بسكينة ، باتزان .

حينها و أخيرا لمحت تلك الأرجل - و أنا أفيق من هول نفسي -  ، كانت من هيأتها الأولى توحي بوجود شيء ما غير طبيعي . رفعت بصري قليلا .. ثم ترددت .. ولكنني تذكرت قلبي الجديد ، شجاعتي الجديدة ، وعدي له بانني لن أخذله . وبكل ثقة ... رفعت عيناي إلى السماء لأرى من هؤلاء ، ولماذا جاؤو . نظرت ، فإذا بهم ثلاثة أشخاص لم أميز ملامحهم ، بدى على وجوههم الوحشة و الجبروت . . لم يكونو أشخاصا عاديين .. فقد كان الواحد فيهم أسود اللون بجناحين سوداويين لم يرحمهما الزمن .. كانو كملائكة للموت .. وكأنهم أتوا كي ياخذو روحي من بين يدي .. و انا انظر إليهم ! لكن  شيء ما بدا مألوف لدي ، تلك الأعين و كأني رايتها من قبل .. ثم تذكرت .

تذكرت كوابيس الطفولة ، كنت حين أخاف أرى تلك الأعين تلاحقني في منامي .. تذكرت أنني كنت أهرب منهم دائما ، تذكرت أنهم أشباح أحلامي .. أشباح كوابيسي .. أشباح الماضي ! وهنا أيقنت أخيرا : أنهم الماضي .

أيعود الماضي ؟

ياللعجب ! هم لم يفارقوني حقا منذ طفولتي ، بل عشت معهم ، هم فرصي التي تخليت عنها ..  هم أحلامي التي رميتها ورائي وتركتها لهم ،  هم ذلك السبب الذي قيدني طوال حياتي ، هم خوفي ، هم مخاوفي ! .

- همست بها .." هم مخاوفي " ، أنتم مخاوفي !

ثم هبت ريح ، ريح ذهبت بي معها .. ريح تعلقت بها فحلقت بي عاليا .. جعلت انظر و انا أحلق .. أنظر إليهم يحاولون الطيران واللحاق بي ، أنظر إلى أجنحتهم التي مزقتها نظراتي أخيرا .. إلى ذلك الجدار الذي احتضنني . أنظرر نظرة اودع بها هذا كله ، أبدأ بها غد جديد ، وعالم جديد ، وحياة جديدة .

نظرت نحو المجهول بلا خوف .. نحو الحرية بلا قيود .. نحو سماء لا أعرفها بكل ثقة وبكل فخر ، و أرى ذلك الطائر الذي كان يرثي حالي ... تحتي .  مازال يحلق ، يبحث عن أرجاء خاوية أخرى  .. عن أجساد أنهكها الخوف فارتمت لتلاقي مصيرها بالضياع . يبحث عن قلوب تنبض بالموت فينهيها  ويمنع عنها النبض ، فهو محرم على جسد ميت أصبح مسكنا للأشباح .
وارتفعت إلى الأعالي ... متسائلا كيف وصلت هناك منذ البدء ؟

لا اعلم . ولكنني الآن أحلق ، و تحملني الرياح إلى ما أريد ، إلى حلمي لأرسم أجمل لوحة من حياتي .. لأنني الآن وجدت نفسي .

وجدت أخلى ما قد تملكه يد إنسان ، وجدت حقيقتي اخيرا لأرسمها ، و ألونها لا بألوان الدنيا .. بل بتلك الأضواء السرية .. التي لا يراها سوى أعمى البصر عن القيود ، ثاقب البصيرة إلى ما لا حدود .

تلك التي آمنت بوجودها ...

فوجدتها

السبت، 16 يونيو 2012


أبحث في ذاكرتي بين الكلمات على مفردة تجمع لي بين صفات لا يعرفها إلا من جربها ... مفردة تعني صراع الأجيال مع الشجاعة ، تدمج بين الحق و الظلم و الصبر ، وبين قوة الإرادة .. و كثير من الأمل .
أبحث عن معنى لأن تموت بحق ! لا أن تموت فقط ، ماذا يعني ان تريق دماءك باحثا عن شيئ ما ضاع منك ، أن تهب حياتك من اجل كلمة ، حق ، عدل ، حرية ...
لا توجد كلمة مثل هذه ...
لا توجد كلمة تحمل معها المعنى الكافي حين ترى امرأة تعلقت دموعها  بآخر جزع شجرة خاو في البستان .
لا توجد كلمة  في ذاكرتي قد تصف طفلا تائها في دنيا كبيرة ... يبحث عن والديه .
شيخ رسم الزمان ملامحه ... يقبر أحفاده بعد أن قبر أبناءه ، رثاؤه لهم سعف نخيل رطب ينير  طريقهم بعد الموت ... وسورة( يس) رحمة لأرواحهم  .. وكثير من دعاء .
لا أجد تلك المفردة ... فالكلمات تتداعى حين تصف شيئا في الإنسان اعمق منها ، أقوى بكثير ، مشاعر تذوقتها بعض القلوب فوهبت الدنيا لخالقها ، وتطلعت نحو حقيقتها .
لا أجد الكلمة إلا أني قد اعرفها حين  انظر بخيالي إلى بقايا بستان بفلسطين .
أو إلى حال الدنيا ... وحال الإنسان .
ولا أخلو يوما  من أمل .