الاثنين، 31 أكتوبر 2011

ما بين مسقط راسه و بلاده






ما بين مسقط راسه و بلاده





" البلد دي صحرا " هذا ما كان يردده سائق الأمجاد التي استقللناها بالأمس بعد أن دار بينه و بين أسرتي حوار شيق عن طرقات مدينة أمدرمان ، كان يقود سيارته في الطريق حيين استوقفناه و قامت خالتي بتوصيف المكان له .


كما نعلم نحن أن توزيع الثورات في أمدرمان هو توزيع عشوائي قد تجد الثورة حارة 11 و بجانبها الثورة حارة 8 ( مجرد مثال لا يمت للواقع بصلة ) ، و زائر هذه البلاد لأول مرة غالبا ما يشتكي من الضياع أو ( التوهان ) فيها ربما لتشابه الأماكن بالنسبة إلى عينيه ، فقد استغرقني الكثير من الوقت لأتعرف على ملامح طريق المنزل إذ كانت كل الطرق تبدو لي كشيء واحد ؛ أو كما قال " صحرا " .


حين بدأنا بالتحرك ظل يسأل عن الطريق مرارا و تكرارا و هل سيطول أم لا إذ يجب أن يكون في مكان آخر و لديه ارتباطات مع أسرته عليه أن يوافيها ، و حين مرت دقيقة من الزمان ادركنا جميعا انه لا يعرف شيئا حقا عن هذه المنطقة !
و بدون أن نضطر لسؤاله أخبرنا حالا بأنه يسكن في الخرطوم- بحري و ان له اقارب هنا في أمدرمان ، و يقوم احيانا بالعمل في سيارة أخيه ، و غالبا يقوم بتوصيلات قريبة من المنطقة التي يعرفها فقط .


هو ممن عاشو و كبروا في المملكة العربية السعودية ، لا يعرف شيئا عن "موطنه" إن صح التعبير ، فأنا لا أعرِّفُ الوطن بالمكان الذي جائت منه عروقك و أصولك ، بل أعرفه بالمكان الذي تنتمي إليه ، بالمكان الذي عشت فيه اجمل أوقات حياتك .


من خلال حديثه أدركت أن هذا المكان لا يساوي أي شيء في قلبه ، كان يتحدث بيأس عن بلاده التي يبدو انها لن تتغير ، فهو لم ينشأ فيها ليعرف ان كانت قد تغيرت أم لا ، فقط حسه و حدسه أخبراه بان هذه الأرض ميته و انه لا أمل لها بالنهوض .


أنا لا أروي هذه الحكاية لنحكم عليه .. ومن نحن لكي نطلق الأحكام إن كنا لا ندري شيئا عن حياته ، ولكني أثير تساؤلا اجده مهما هنا : هل الوطن هو الوطن حقا ؟


 طوال هذه السنين التي عشناها في الغربة لطالما كان للسودان مكانة في قلبي ، ليس كوطن ! إنما كأرض تعتبر تراثا لأجدادي ، هنالك نوع من المسؤولية أستشعره تجاهها ، دون أن يدفعني أي شخص لذلك ... هنالك دائما إحساس بالواجب يظل قائما بان عليك أن تقدم شيئا لبلادك حتى و إن لم تقدم لك بلادك شيء سوى الأسى في حياتك ، فأنت لا تقدس الحكام .. ولا تقدس الشعوب .. إنما تقدس ترابها الذي منه نشأت ، هو اسمى من مجرد دين عليك ان ترده ، بل هي هبة تهبها أرضك دون نظير .


في الدقائق الاخيرة و بعد نقاش طويل عن السودان اتفقنا على أن هذا هو الواقع ، فلن ترغم أبناء المغتربين على حب الوطن بالقوة ، الحب بذرة لا يزرعها سواك .


 في الأخير سادت أجواء مرحة مسلية بنهاية هذا الحوار الودي بين أسرتي و المغترب حين أوصلنا لمحطتنا الاخيرة و قال ضاحكا " انا لو أدوني مليون ريال ما أعيش في المنطقة دي " فالمنطقة كانت بالنسبة له كالصحراء فهي من الاماكن التي وزعت قريبا و لم تأهل بالسكان بعد فهناك من يبني و من يسكن و من ترك أرضه خالية .


نزلنا و البسمة على شفاهنا و نصحناه بأن يحاول معرفة المزيد عن السودان و ألقينا السلام و انصرفنا إلى زيارة الأصدقاء ثم عدنا بعد ان عم الليل أرجاء المدينة مانحا إياها شيئا من السكون الجميل زيَّنَهُ الهلال في السماء فبدت أمدرمان كقطعة أثرية لابد لنا من معرفة قيمتها يوما ما.